التصوف والطريق إلى إحياء علوم الدين عند الغزالي

Abstract

عالج الباحث في هذه الدراسة مفهوم التصوف وتطوره بإيجاز، ثم قدم نبذة عن حياة الإمام أبي حامد الغزالي (450 – 505هـ)، وكيف انتهى به طلب العلم والمجاهدة في العبادة إلى الاعتقاد بان طريق التصوف هو خير الطرق المؤدية إلى الله تعالى. كما توصل بعد طول تأمل وتفكير إلى أن الطريق إلى تجديد علوم الدين وإحيائها. هو في الجمع بين علم الفقه الذي يشرح كيفية أداء فروض الدين العملية من طهارة وصلاة وزكاة وحج أداءاً جسمانياً واجتماعياً – كما تقرر عند فقهاء أهل السنة والجماعة – وبين علم المعاملة الذي أخذه عن الصوفية وهو يوضح كيفية أداء تلك الواجبات العملية اداءاً روحياً. وبذلك يصبح الفقه، فقهين: فقه العبادة والمعاملة الاجتماعية، وفقه العبادة الروحية والمعاملة القلبية. لقد حاول الغزالي أن يوضح في كثير من النصوص أنه لا يوجد تعارض بين العلوم الشرعية التي مصدرها الوحي وبين العلوم العقلية التي يتم التوصل اليها عن طريق العقل والإلهام، وأن احدهما يكمل الأخر: "فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القران والسنة مغرور، فإياك أن تكون من احد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين، فأن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية...". وقد أوضح الغزالي أن العلوم العقلية "تنقسم إلى دنيوية وأخروية، فالدنيوية كعلم الطب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات، والأخروية: كعلم أحوال القلب، وآفات الأعمال، والعلم بالله وبصفاته وأفعاله" ويشير الغزالي إلى "ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية – أي العقلية – دون التعليمية – أي الشرعية –، فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة، والإقبال بكنه الهمة على الله ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم" غير أن الغزالي ينبه إلى أن طريق المجاهدة قد يفضي بصاحبه إلى العلم عن طريق الكشف، لكن الاقتصار على هذا الطريق ليس مأمون العواقب، فقد يفسد المزاج أثناء المجاهدة، ويختلط العقل ويمرض البدن "وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم تثبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها، فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة، ولو كان قد أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق واقرب إلى الفرض". وقد وجد الغزالي أن هنالك من يرى تعارضاً بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية فرد عليهم بقوله: "وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما فيظن أنه في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، و ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين، وهيهات..". لذا أنتقد الغزالي الفلاسفة انتقاداً شديداً في كتابه تهافت الفلاسفة، ليس لأنه لا يثق بقدرة العقل ودوره في الوصول إلى الحقائق العلمية وإنما لأن الفلاسفة قد استخدموا العقل في غير المجالات التي خلق لها "فالغزالي لم يتهم العقل إلا في مسائل ما بعد الطبيعة فقط – أي الإلهيات – وهي المسائل التي تعثر فيها الفلاسفة وتفرقوا مذاهب شتى وطرائق قدداً، وما ذلك الا لأن مسلكهم فيها لم يكن برهانياً يؤدي إلى العلم اليقيني الذي حدده الغزالي بل كل ما يمكن أن يصل إليه العقل في شأنها هي نتائج ظنية لا تغني من الحق شيئاً... واما ما عدا ذلك من علوم ومعارف فأن العقل قادر على مواجهتها وخوض غمارها. وهكذا فالعقل ثقة في مسائل الرياضيات والمنطقيات، والفلكيات، وغير ثقة في حقائق الإيمان ومسائل ما بعد الطبيعة". وفضلاً عما تقدم فقد عمل الغزالي على معالجة مسالة العلاقة بين العلوم الشرعية المكتسبة عن طريق التعلم، تعلم تفسير والحديث والفقه والكلام، والعلم الغيبي اللدني الذي طريقه الإلهام وهو الذي يعتمد عليه خواص المتصوفة حيث أوضح في (الرسالة اللدنية) خصائص هذا العلم وطرقه وحاول وضع الحدود التي تم من الغلوب والانحراف عن التوحيد، وذلك من خلال تأكيده المستمر على ضرورة الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم اللدنية، والعلوم المسعية والعلوم العقلية، وعدم استقلال احدهما عن الآخر.